فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قلت: بل هذا من المواضع المذكورةِ، وهو باب المبتدأ. غايةُ ما في ذلك أنه دَخَلَ عليه ناسخٌ وهو أن فهو نظيرُ قولهم: هي العروبُ تقول ما شاءَتْ، وهي النفسُ تتحمَّل ما حَمَلْتْ. وقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا} [الأنعام: 29]. وقد جعل الزمخشريُّ جميعَ ذلك مِمَا يُفَسَّر بما بعده، ولا فرقَ بين الآية الكريمةِ وبين هذه الأمثلةِ إلاَّ دخولُ الناسخِ ولا أثرَ له، وعَجِبْتُ من غَفْلَةِ الشيخ عن ذلك.
قوله: {التي فِي الصدور} صفةٌ أو بدلٌ أو بيانٌ. وهل هو توكيدٌ؛ لأنَّ القلوبَ لا تكونُ في غير الصدور، أو لها معنى زائدٌ؟ كما قال الزمخشري: الذي قد تُعُوْرِف واعتُقِدَ أنَّ العمى في الحقيقة مكانُه البصرُ، وهو أن تصابَ الحَدَقَةُ بما يَطْمِسُ نورَها، واستعمالُه في القلبِ استعارةٌ ومَثَلٌ. فلمَا أُريدَ إثباتُ ما هو خلافُ المعتقدِ مِنْ نسبةِ العمى إلى القلوبِ حقيقةً، ونفيُه عن الأبصارِ، احتاج هذا التصويرُ إلى زيادةِ تعيينٍ وفَضْلِ تعريفٍ؛ ليتقرَّرَ أنَّ مكانَ العمى هو القلوبُ لا الأبصارُ، كما تقولُ: ليس المَضَاءُ للسَّيْفَ، ولَكِنه لِلِسانِك الذي بينَ فَكَّيْكَ. فقولُك: الذي بين فَكَّيْكَ تقريرٌ لِما ادَّعَيْتَه لِلِسانِه وتثبيتٌ؛ لأنَّ مَحَلَّ المَضاءِ هو هو لا غير، وكأنَّك قلتَ: ما نَفَيْتُ المَضاءَ عن السيفِ وأثبتَّه لِلِسانِك فلتةً مني ولا سَهوًا، ولَكِن تَعَمَّدْتُ به إيَّاه بعينه تَعَمُّدًا.
وقد رَدَّ الشيخ على أبي القاسم قوله: تَعَمَّدْتُ به إياه وجعل هذه العبارةَ عُجْمَةً من حيث إنه فَصَلَ الضميرَ، وليس من مواضعِ فَصْلِه، وكان صوابُه أن يقول: تعمَّدْتُه به كما تقول: السيفُ ضربتُك به لا ضربْتُ به إياك.
قلت: وقد تقدَّم لك نظيرُ هذا الردِّ والجوابُ عنه بما أُجيب عن قوله تعالى: {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1]، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} [النساء: 131]: وهو أنه مع قَصْدِ تقديمِ غيرِ الضميرِ عليه لغرضٍ يمتنعُ اتصالُه، وأيُّ خطأ في مثل هذا حتى يَدَّعي العُجْمَةَ على فصيحٍ شَهِدَ له بذلك أعداؤُه، وإن كان مُخْطِئًا في بعضِ الاعتقاداتِ ممَا لا تَعَلُّقَ له فيما نحن بصدِده؟
وقال الإِمامُ فخر الدين: وفيه عندي وجهٌ آخرُ: وهو أنَّ القلبَ قد يُجْعَلُ كنايةً عن الخاطرِ والتدبُّرِ، كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]. وعند قومٍ أنَّ محلَّ الذِّكْرِ هو الدماغُ، فاللهُ تعالى بيَّن أنَّ مَحَلَّ ذلك هو الصدرُ. وفي محلِّ العقلِ خلافٌ مشهورٌ، وإلى الأولِ مَيْلُ ابنِ عطية قال: هو مبالغةٌ كما تقول: نظرتُ إليه بعيني، وكقوله: {يقولون بأَفْواههم} قلت: وقد أَبْدَيْتُ فائدةً في قوله: {بأفواههم} زيادةً على التأكيد.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوما عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَا تَعُدُّونَ (47)}.
قوله: {مِّمَا تَعُدُّونَ}: قرأ الأخَوان وابن كثير {يَعُدُّون} بياءِ الغَيْبة. والباقون بتاءِ الخطاب وهما واضحتان.
قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ}: قد تقدَّم نظيرُها. قال الزمخشري: فإن قلتَ: لِمَ عُطِفَتْ الأولى بالفاء، وهذه بالواو؟ قلت الأولى وَقَعَتْ بدلًا مِنْ قوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} وأمَا هذه فحكمُها حكمُ الجملتين قبلها المعطوفَتَيْن بالواو، أعني قوله: {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوما عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أهلَكِناها وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج: 45]، وقال تعالى بعد هذا: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج: 48]، يسأل عن الفرق الموجب لاختلاف الواقع في الآيتين؟
والجواب: أن الآية الأولى تنزلت على ما ذكر قبلها ممن أهلك من القرون والأمم السالفة بتكذيبهم للرسل، ممن قال فيهم بعد تفصيل ذكرهم: {وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} [الحج: 44]، وأما الآية الثانية فوقع قبلها ذكر اسنعجالهم العذاب تكذيبًا واستبعادًا في قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج: 47]، فعرفوا بأن تأخيره عنهم إملاء للمكذبين به: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178]، وقيل في حالهم في التكذيب واستبعاد وقوع العذاب، قد جرى لمن قبلهم من المكذبين ثم جاءهم ما كذبوا به وحل بهم ما استبعدوه فقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا} [الحج: 48]، فاستعجالهم العذاب أوجب تعريفهم بحال غيرهم ممن ناسب حالهم لعلهم يتذكرون، يزيد ذلك بيانًا قوله: {وإلي المصير} [الحج: 48]، وكأن الكلام في قوة أن لو قيل لهم: إنما يعجل من يخاف الفوت، أمّا إذا كان مرجع الكل ومصيرهم إليه فيأخذ المكذب متى شاء، وإن أخره فإملاه لزيادة مِحنِهَ، فوضح ما بين الآيتين، وأنه لا يمكن على ما تمهد وقوع واحدة منهما في موضع الأخرى، والله أعلم. اهـ.
لطيفة أخرى:
قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوما عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]، وفي سورة السجدة: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السماء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5]، وفي سورة المعارج: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]، يسأل عن وجه الفرق؟ وما معنى تقدير اليوم بما ذكر تعالى؟
والجواب عنه، والله أعلم: أن المراد تبيين أفعال سبحانه، وأنه لا تكلف فيها ولا معالجة: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أراد شَيْئًا أَنْ يقول لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، فكأن قد قيل لهم: إذا شاء هذابكم كان، فإنه سبحانه المتعالى عن التعاون والمعالجة والافتقار، فإذا قدر الشيء وأراد إنفاذه كان وتحصل في الوقت الوجيز القريب، منه ما تصدرون حصوله ومعالجة وقوعه في ألف سنة من أيامكم أو ما تقدرون تهيئة ونفوذه بألف سنة من أيامكم على مألوفكم، وإذا أراد سبحانه وقوع ذلك كان عن أمره كن أعجل من كل عاجل، إذ ليست أفعاله كأفعال خلقه التي يحتاجون فيها إلى العون والعلاج والآلات، تعالى الله عن شبه خلقه، فَلِمَ يستعجلون ما لا تكلف في وقوعه وحلوله؟ فإنما يمنع من استعجاله ربطه بأجل، إذا بلغ الأجل كان وقوعه، وهو يوم القيامة، وهو الأجل المسمى، ومن شاء تعجيل عذابه في دنياه أو ما شاء من امتحانه حل به إذا آن وقته، وتوقفه عمن قدره عليه إملاء وزيادة في امتحانه، {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا} [الحج: 48]، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]، وعلى هذا قوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السماء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْه } [السجدة: 5]، المراد أن بعد هذه المسافة لا تحول دون استعجال نفوذه تدبيره وإمضاء مقاديره، وأنه سبحانه ليديرها ثم ترجع إليه في وقت لو وُكل ذلك إليكم وكان من مقدوراتكم لفعلتموه في ألف سنة على نحو ما تقدم في الآية الأخرى.
وأما آية المعارج فالمراد باليوم المذكور فيها يوم القيامة، الواقع فيها حساب الخلائق، ووزن أعمالهم، وفصل ما بينهم، إلى استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، ففيه من الأعمال المتعلقة بالخلق ما يتقدر وقوعه وتخلصه من أيام الدنيا على متعارفها، مع عظيم أهواله وشدة كروبه، وأيام الأهوال والشدائد توصف بالطول لعظيم أهوالها، مع ما يقتضي فيه. مقدر من أيامنا بخمسين ألف سنه، وهو على مؤمن التقي كصلاة صلاها، قال تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 8- 10]، ويدل على أن المراد به يوم القيامة ما ذكره الله سبحانه عقب تقديره من وصفه بقوله: {يَوْمَ تَكُونُ السماء كَالْمُهْلِ} [المعارج: 8] إلى قوله: {وَمَنْ فِي الأرض جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} [المعارج: 14]. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أهلَكِناها وهي ظَالِمَةٌ فَهِى خَاوِيةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}.
الظلمُ يوجِبُ خرابَ أوطانِ الظالم، فتخرب أولًا أوطان راحة الظالم وهو قلبه، فالوحشةُ التي هي غالبةَ على الظَّلَمَةِ من ضيقِ صدورهم، وسوءِ أخلاقهم، وفَرْطِ غيظ مَنْ يَظْلِمُونَ عليهم... كل ذلك من خراب أوطان راحاتهم، وهو في الحقيقة من جملة العقوبات التي تلحقهم على ظلمهم.
ويقال خرابُ منازلِ الظَّلَمَةِ ربما يتأخر وربما يتعجل. وخرابُ نفوسهم في تعطلها عن العبادات لِشُؤْم ظُلْمِهم، وخرابُ قلوبهم باستيلاء الغفلة عليهم خصوصًا في أوقات صلواتهم وأوان خلواتهم... نقدٌ غير مستأخر.
قوله جلّ ذكره: {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ}.
الإشارة في {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ}: إلى العيون المتفجرة التي كانت في بواطنهم، وكانوا يستقون منها، وفي ذلك الاستقاء حياةٌ أوقاتِهم من غلبات الأرادة وقوة المواجيد، فإِذا اتصفوا بظلمهم غَلَبَ غُثاؤها وانقطع ماؤها بانسداد عيونها.
والإشارة في {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} إلى تعطيل أسرارهم عن ساكنيها من الهيبة والأُنس، وخُلُوِّ أرواحهم من أنوار المحابِّ، وسلطان الاشتياق، وصنوف المواجيد.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}.
كانت لهم مقلوبٌ من حيث الخلقة، فلما زايلتها صفاتُها المحمودةُ صارت كأنها لم تكن في الحقيقة. ثم إنه أخبر أن العمى عمى القلب وكذلك الصم. وإذا صَحَّ وصفُ القلبِ بالسمع والبصر صَحَّ وصفُه بسائر صفات الحيِّ من وجوه الإدراكات؛ فكما تبصر القلوبُ بنور اليقين يُدْرَكُ نسيمُ الإقبال بِمَشَامِّ السِّرِّ، وفي الخبر: إني لأجد نَفَسَ ربكم من قِبَل اليمن وقال تعالى مخبرًا عن يعقوب عليه السلام: {إِنِّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 49] وما كان ذلك إلا بإِدراك السرائر دون اشتمام ريحٍ في الظاهر.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوما عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَا تَعُدُّونَ (47)}.
عَدَمُ تصديقهم حَمَلَهم على استعمال ما توعدهم به، قال تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَِّذينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا} [الشورى: 18] ولو آمنوا لصدَّقوا، ولو صدَّقوا لَسَكَنُوا. {وَإِنَّ يَوما عِندَ ربِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ}: أي إنَّ الأيامَ عنده تتساوى، إذ لا استعجالَ له في الأمور؛ فسواء عنده يوم واحد وألف سنة؛ إذ مَنْ لا يَجْرِي عليه الزمانُ وهو يُجْرِي الزمانَ فَسَواء عليه وجودُ الزمانِ، وعدم الزمان وقِلة الزمانِ وكَثْرَةُ الزمانِ.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وإلي المصير (48)}.
الإِمهال يكون من الله- سبحانه وتعالى، والإمهال يكون بأَنْ يَدَعَ الظالمَ في ظُلِمِه حينًا، ويوسِّع له الحَبْل، ويطيل به المهل، فيتوهم أنه انفلت من قبضة التقدير، وذلك ظنه الذي أراده، ثم يأخذه من حيث لا يَرْتَقِب، فيعلوه نَدَمٌ، ولات حينه، وكيف يستبقي بالحيلة ما حق في التقدير عَدَمُه؟. اهـ.

.قال ابن عجيبة:

الإشارة: عمى القلوب هو انطماس البصيرة، وعلامة انطماسها أمور: إرسال الجوارح في معاصي الله، والانهماك في الغفلة عن الله، والوقيعة في أولياء الله، والاجتهاد في طلب الدنيا مع التقصير فيما طلبه منه الله. وفي الحِكَم: اجتهادك فيما ضمن لك، وتقصيرك فيما طلب منك، دليل على انطماس البصيرة منك. وعلامة فتحها أمور: المسارعة إلى طاعة الله، واستعمال المجهود في معرفة الله، بصحبة أولياء الله، والإعراض عن الدنيا وأهلها، والأنس بالله، والغيبة عن كل ما سواه. واعلم أن البصر والبصيرة متقابلان في أصل نشأتهما، فالبصر لا يُبصر إلا الأشياء الحسية الحادثة، والبصيرة لا تُبصر إلا المعاني القديمة الأزلية، فإذا انطمست البصيرة كان العبد مفروقًا عن الله، لا يرى إلا الأكوان الظلمانية الحادثة. وفي ذلك يقول المجذوب رضي الله عنه: مَنَ نَظَرَ الكَوْن بِالْكَوْنِ غَرَّهُ في عمى البصيرة... ومن نظر الكون بالمكون صادق علاج السريرة وإذا انفتحت البصيرة بالكلية استولى نورها على نور البصر، فانعكس نور البصر إلى البصيرة، فلا يرى العبدُ إلا أسرار المعاني الأزلية، المفنية للأواني الحادثة، فيغيب عن رؤية الأكوان بشهود المكون. وعِلاَجُ انفتاحها يكون على يد طبيب ماهر عارف بالله، يقدحها له بمرود التوحيد، فلا يزال يعالجها بإثمد توحيد الأفعال، ثم توحيد الصفات، ثم توحيد الذات، حتى تنفتح. فتوحيد الأفعال والصفات يُشهد قُرب الحق من العبد، وتوحيد الذات يُشهد عدمه لوجود الحق، وهو الذي أشار إليه في الحكم بقوله: شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق، لا عدمك ولا وجودك. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان. فيرى حينئذ من أسرار الذات وأنوار الصفات ما لا يراه الناظرون، ويشاهد ما لا يشاهده الجاهلون. وفي ذلك يقول الحلاج:
قلُوبُ العَارفينَ لَهَا عُيُونٌ ** تَرَى مَا لا يُرَى للنَّاظِرِينَا

وأجْنِحَةٌ تَطِيرُ بِغَيْرِ رِيشٍ ** إلَى مَلَكُوتِ رَبِّ العَالمِينا

وألْسِنَةٌ بأسْرَارٍ تُنَاجِي ** تَغيبُ عن الكِرَامِ الكَاتِبِينا

وقال الورتجبي: الجهال يرون الأشياء بأبصار الظواهر، وقلوبهم محجوبة عن رؤية حقائق الأشياء، التي تلمع منها أنوار الذات والصفات، وأعماهم الله بغشاوة الغفلة وغطاء الشهوة. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
ظاهر هذه الآية أن الأبصار لا تعمى، وقد جاءت آيات أخر تدل على عمى الأبصار كقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}، وكقوله: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ}.
والجواب: أن التمييز بين الحق والباطل وبين الضار والنافع وبين القبيح والحسن لما كان كله بالبصائر لا بالإبصار صار العمى الحقيقي هو عمى البصائر لا عمى الأبصار ألا ترى أن صحة العينين لا تفيد مع عدم العقل كما هو ضروري وقوله: {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} يعني بصائرهم أو أعمى أبصارهم عن الحق وإن رأت غيره. اهـ.

.وقال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوما عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَا تَعُدُّونَ}.
هذه الآية الكريمة تدل على أن مقدار اليوم عند الله ألف سنة وكذلك قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السماء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَا تَعُدُّونَ}.
وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى في سورة سأل سائل: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} الآية، إعلم أولا أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل ابن إبراهيم عن أيوب عن ابن أبي مليكة أنه حضر كلًا من ابن عباس وسعيد ابن المسيب سئل عن هذه الآيات فلم يدر ما يقول فيها ويقول لا أدري.
وللجمع بينهما وجهان:
الوجه الأول: هو ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس من أن يوم الألف في سورة الحج هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض، ويوم الألف في سورة السجدة هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى.
ويوم الخمسين ألفا هو يوم القيامة.
الوجه الثاني: أن المراد بجميعها يوم القيامة وأن الاختلاف باعتبار حال المؤمن والكافر؛ ويدل لهذا قوله تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} ذكر هذين الوجهين صاحب الإتقان. والعلم عند الله. اهـ.